الحرب الإيرانية الإسرائيلية.. شرق أوسط يخرج عن السيطرة

نجحت إيران في إطلاق صاروخ أرض-أرض محلي الصنع من طراز "قيام-1" (غيتي)

على مدى الأسابيع القليلة الماضية، انخرطت إسرائيلُ وإيرانُ في مواجهة عسكرية مباشرة؛ قصفت إسرائيل القنصليةَ الإيرانية في سوريا، مما أسفر عن مقتل عدد من كبار المسؤولين العسكريين الإيرانيين. ثم أرسلت إيران في نهاية الأسبوع الماضي مئات الطائرات بدون طيار والصواريخ تجاه إسرائيل. وأخيرًا، في وقت مبكر من يوم الجمعة 19 أبريل/نيسان الجاري، ردّت إسرائيل بضرب قاعدة عسكرية في إيران، وأعقبها في اليوم التالي مهاجمة جماعات مسلحة عراقية محسوبة على إيران.

أظهرت الديناميكيات المختلفة التي ارتبطت بتغيير قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل عددًا من القواعد التي ستحكم الشرق الأوسط في قابل الأيام، وهي تضاف إلى توجهات أخرى أبرزتها عملية "طوفان الأقصى"، أو على أقل تقدير أعادت ضبطها، كما كتبتُ من قبل.

أولًا: المنطقة لا تستطيع أن تتحمل مزيدًا من الصراعات

فقد سعت جميع الأطراف الدولية والإقليمية – باستثناء إسرائيل – لعدم التصعيد؛ وإن اختلفت دوافعها.

لا تزال دول الخليج تقاوم السياسة الأميركية التي تدفعها بحكم الأمر الواقع إلى معادلة: إما معنا أو ضدنا، بما في ذلك التواجد مع إسرائيل، في حين ترغب في الاستفادة من انفراجها مع إيران لاحتواء الموقف الإيراني فقط.

تسعى السعودية إلى القيام بدور أكثر توازنًا في المنطقة بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران، بموجب اتفاق توسطت فيه الصين في مارس/آذار من العام الماضي. الاستقرار الإقليمي ضروري للمملكة؛ لاستكمال مشروعاتها لمرحلة ما بعد النفط، وقيادة النظام الإقليمي. آخر شيء تريده السعودية هو التورط في صراع أميركي- إيراني – إسرائيلي. وبما أن هذه الجهات الثلاث – وخاصة الولايات المتحدة وإيران – مهمة للأمن السعودي، فقد حاولت النخبة الحاكمة في المملكة العربية السعودية أن تكون متسقة في التأكد من عدم النظر إليها على أنها تسهل أو تساعد أيًا منها ضد بعضها بعضًا.

أما طهران – ولأسباب داخلية أساسًا – فتحجم عن الانخراط في صراع إقليمي، وترغب في تجنب الانجرار إليه. هي داخليًا عندها تحركات شعبية من احتجاجات شبابية، وتحاول أن تخفف ضغوط العقوبات الغربية، كما تملك أدوات متعددة -أبرزها وكلاؤها في المنطقة- تستطيع من خلالها استمرار الحرب غير المباشرة مع إسرائيل.

تعتقد أنقرة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يريد حربًا مع إيران، وخاصة إذا تمكن من جرّ الولايات المتّحدة وكسبها في صفّه. وتنشط تركيا بالفعل دبلوماسيًا في العلاقة بين إيران والولايات المتحدة/ الغرب لتهدئة التوتر.

تشعر أنقرة بقلق بالغ من أن يؤدي المزيد من تصعيد التوتر بين طهران وتل أبيب إلى تحويل التركيز عن غزو غزة وتقليل الضغط الدولي على إسرائيل، وبالتالي قد تتشجع تل أبيب مرة أخرى لمواصلة إخلاء غزة. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه العملية لن تؤدي إلا إلى تعزيز تصميم إيران على تسريع برنامجها النووي، وربما يؤدي ذلك إلى المزيد من إثارة سباق نووي إقليمي.

هناك خوف سائد في جميع أنحاء لبنان من تصاعد التوترات على طول الحدود مع حزب الله. أما الأردن فيدرك أن استقراره هو الثمن الذي سيدفعه في حال تصاعد الصراع وانتشاره. تخشى مصر من الثمن الباهظ اقتصاديًا الذي يجب أن تدفعه في هكذا تصعيد، كما أن مزيدًا من الاشتباك بين إيران وإسرائيل، يعني انزلاق العراق إلى عدم الاستقرار. العراق واحد من الساحات التي تدور على أرضه هذه الاشتباكات، كما جرى خلال الأيام الماضية حين قصفت إسرائيل فيه الجماعات المسلحة المحسوبة على إيران.

الولايات المتحدة تدرك أن هذا التصعيد – في القلب منه وسياقه الأوسع- هو إعادة ضبط هيكل القوى في النظام الدولي، كما يظهر في الحرب الأوكرانية، وأولوية التنافس مع الصين. وأخيرًا؛ فإن الاتحاد الأوروبي يخشى أن تنزلق المنطقة إلى مزيد من عدم الاستقرار بما يؤثر على مصالحه المباشرة.

ثانيًا: برغم توفر الرغبة عند الجميع؛ فإن شروط عدم التصعيد غير متوفرة حتى الآن:

يتوقف وقف التصعيد – في الوقت الحالي – على عدة عوامل: وضع حد للصراع في غزة، وتبني الولايات المتحدة موقفًا مختلفًا عن إسرائيل في السياسة الإقليمية، وإنشاء دولة فلسطينية، والتخلص من المتشددين على كل جانب.. عندها فقط يمكن التوصل إلى حل حقيقي للصراع.

تحتوي عقيدة بايدن على عدة عناصر أساسية:

  1. إحباط نشاط إيران الضار في المنطقة، وكذلك نشاط وكلاء طهران، مع الانخراط في حوار مع الجمهورية الإسلامية.
  2. الدفع قدمًا بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما يضمن أنها لا تشكل أيَّ تهديد لإسرائيل.
  3. تشكيل تحالف أمني موسع مع المملكة العربية السعودية، يتضمن تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل.
  4. تعزيز التعاون الاقتصادي والازدهار بين بعض دول المنطقة وشركاء من خارجها، بما في ذلك البنية التحتية والتجارة من الهند إلى أوروبا. تعتقد إدارة بايدن أن كل هذه العناصر مترابطة.

سبق أن ناقشت على صفحات الجزيرة نت أوهام عقيدة بايدن، لكن الجديد الذي أضيفه هنا -وأبرزه تغير قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل- أن تطورات الصراع بينهما مما سيحكم ديناميات المنطقة في الأجل المنظور.

حاولت إسرائيل الاندماج في المنطقة من خلال اتفاقيات أبراهام والتطبيع مع السعودية، كما حاولت إيران الانخراط في المنطقة من خلال الاتفاق السعودي – الإيراني ودعم الحلّ في اليمن، لكن ثبت بعد "الطوفان" أنه لا يمكن المحافظة على نفس التوجهين معًا؛ فكلٌّ منهما يحمل تناقضًا مع الآخر. تملك إيران، كما تملك إسرائيل، فيتو على التطبيع بينهما وبين الدول العربية، كما أنّ إعادة ترسيم الممرات التجارية ومسارات الطاقة الإستراتيجية تعني بالضرورة إقصاء إحداهما، وهو ما يضمن – بالإضافة إلى عوامل أخرى أيديولوجية ونووية- استمرار الصراع بينهما.

ثالثًا: عودة الأيديولوجيا، وصعود المتشددين، وبداية نظام أمن إقليمي

ثلاث ظواهر برزت بقوة الأيام القليلة الماضية، وتتكامل مع بعضها بعضًا؛ لترسم ملامح شرقِ أوسط معرّضٍ لصراع أكبر:

أولاً: مزيد من حضور الخطابات الأيديولوجية والثقافية

كان المطروح للإقليم قبل "طوفان الأقصى" إخراج الأيديولوجيا من المشهد، حيث الواقعية هي التي يجب أن تسود، والاقتصاد يجب أن يقود.

لم يتم استبعاد الإسلاميين وحدهم – وفق هذه السياسة – بل امتد الإقصاء؛ ليشمل جميع المكونات الفكرية والتنظيمات السياسية التي يمكن أن تعبر عن بقايا الأيديولوجيا. شمل هذا التصورُ الوهابية، كما امتدّ إلى بقايا التيارات القومية. لم يعد جذر التنافس مع إيران هو المسألة الشيعية، أو باعتبارهم روافض؛ ولكن الخلافات تدور حول: التدخلات في شؤون الدول العربية، والصراع حول التصورات المطروحة للإقليم، بما تتضمنه من مصالح.

لكن مع الأيام الأولى للطوفان برزت كل الخطابات الدينية: إسلامية ومسيحية يمينية "البروتستانت الإنجيليين" ويهودية، وأضيفت إليها القومية الهندوسية التي رأى فيها بعض المراقبين، أنها أحد أسباب الموقف الهندي الداعم لإسرائيل بعد أن كانت- تاريخيًا- مساندة للفلسطينيين. أصبحت الهند اليوم شريكًا إستراتيجيًا وثيقًا للولايات المتحدة، وحليفًا قويًا لإسرائيل.

تصاعدت – مع الاشتباك الإيراني الإسرائيلي الأخير- خطابات مهاجمة الشيعة، بما يذكرنا بتوظيفاتها المختلفة أيام الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، والحرب الأهلية العراقية بعد غزو العراق 2003. كان أحد أهداف استدعاء هذه الخطابات من جديد هو التهوين من أهمية هذه الخطوة رمزيًا بإثارة الخلاف حولها.

ثانياً: أن المتشددين على كل ضفة هم من سيقودون المشهد في المستقبل، أو على الأقل سيكون لهم تأثير كبير عليه

ترصد لنا صحيفة "هآرتس" كيف أجج الهجوم الإيراني على إسرائيل شهية حلفاء نتنياهو الإنجيليين لنهاية العالم.

تقول نوا لأندرو – كاتبة المقال: "وفي الوقت الذي لا يزال فيه معظم الإسرائيليين يتعافون من ليلة الهجوم الإيراني وينتظرون بفارغ الصبر توقف التصعيد الخطير، هناك كثيرون يراقبون من بعيد بنشوة دينية هذه الأحداث المثيرة للقلق. إنهم ليسوا دعاةَ الحرب المسيحيين هنا في إسرائيل، بل هم مؤيدو حكومة نتنياهو، "أصدقاء إسرائيل"، والمسيحيون الإنجيليون".

وتتابع: "وفي اليوم التالي لإحباط الهجوم، تجمع المئات من القادة الإنجيليين في الكابيتول هيل في واشنطن لمناشدة أعضاء الكونغرس الأميركي عدم التحرك لمنع تصعيد الوضع. نعم سمعتم الحق، ليس لمنع التصعيد".

القس جون هاجي – مؤسس منظمة "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل"- وهي نفس المجموعة التي ضغطت، من بين أمور أخرى، على دونالد ترامب لنقل السفارة الأميركية إلى القدس، أوضح لأتباعه أن الهجوم الإيراني أثبت أنه "نبوئِيًّا، نحن على وشْك حرب يأجوج ومأجوج التي وصفها حزقيال في الإصحاحَين: 38 و39.

يسلط رد إيران الضوء على تحول واضح في التفكير الإيراني. لسنوات عديدة، كان نهجها تجاه إسرائيل والولايات المتحدة يدور إلى حد كبير حول ما وصفه المسؤولون الإيرانيون بـ"الصبر الإستراتيجي"، وهو نهج طويل الأمد يستلزم تعزيز الجماعات الوكيلة دون اللجوء إلى عمليات انتقامية فورية واستفزازية. استندت هذه الإستراتيجيَّة إلى الاعتقاد بأن الشبكات التي بنتها إيران أعطتْها القدرة على إظهار القوة دون المخاطرة بالتورُّط المباشر، وفرض تكاليف باهظة مع الحفاظ على قشرة من الإنكار.

لكنّ المتشددين في النظام – الذين أصبحوا الآن في صعود – ينظرون على نحو متزايد إلى مثل هذا الصبر باعتباره علامة ضعف. ولذلك دفعوا الحكومة إلى زيادة قدرتها على تحمل المخاطر وتبني المواجهة. وكان هذا التفكير واضحًا في سلوك إيران خلال الأشهر القليلة الماضية.

في يناير/كانون الثاني، ضربت إيران أهدافًا في شمال العراق وسوريا، مدعية أنها مرتبطة بإسرائيل أو تنظيم الدولة الإسلامية. وفي اليوم التالي، هاجمت الأراضي الباكستانية، وضربت ما قالت إنها قواعد عمليات للجماعات المسلحة التي ضربت إيران. والآن، هاجمت إيران إسرائيل أيضًا. غرد مسؤول إيراني كبير في 14 أبريل/ نيسان قائلًا: "لقد انتهى عصر الصبر الإستراتيجي. لقد تغيرت المعادلة".

ثالثاً: بدايات تعاون عسكري قد يقود إلى تحالف إقليمي دولي بقيادة الولايات المتحدة، يؤدي إلى تأجيج الصراعات في المنطقة.

لا تزال دول الخليج – كما قدّمت – تقاوم السياسة الأميركية التي تدفعها إلى معادلة: إما معنا أو ضدنا. لكن عندما وضعت هذه الدول في المنطقة التي تصفها إسرائيل بـ "المعتدلة" أمام الاختبار، فقد اختارت جانبًا: التحالف الأميركي الإسرائيلي.

تعكس الطريقة التي تم بها صد الهجوم على إسرائيل وجهة النظر التي تفكر بها الولايات المتحدة في توفير الأمن لحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل.

تعاون في صد الهجوم الإيراني أعضاء عسكريون بارزون في حلف الناتو، وقدمت دول عربية معلومات استخباراتية ولوجيستية، بالإضافة إلى مشاركة الأردن مباشرة في إسقاط المسيرات والصواريخ باستخدام دفاعاته الجوية.

هل يكون هذا التعاون بداية تدشين تحالف إقليمي ودولي بقيادة الولايات المتحدة ضد إيران، أو -على أقل تقدير- ردعها عن تهديد دول المنطقة وتوفير الأمن لإسرائيل، ويمكن له أن يلعب أدوارًا مستقبلية في اليوم التالي لوقف الحرب في غزة؟

معضلة هذا التصور أنه يوفر الأمن لإسرائيل أولًا، لكنه بالضرورة لا يضمن الأمن للدول العربية المشاركة فيه. هو سيزيد الشكوك والهواجس المتبادلة بينها وبين إيران، وسيقطع مسيرة التعاون التي بدأت قبل "الطوفان" من خلال الاتفاق السعودي – الإيراني، كما أنه سيزيد الهوة بين الشعوب العربية وحكومات المنطقة؛ حين تجد – في النهاية – أن المقصود به هو توفير الأمن لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، ولا يعالج الاستقرار المطلوب في المنطقة.

الولايات المتحدة بتحالفاتها توفر الأمن لإسرائيل أولًا، ولا يعني هذا بالضرورة بناء السلام والاستقرار في المنطقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.